المحاضرة
السابعة : مقاومة الأمير عبد القادر بالغرب الجزائري ( 1830-1847)
أ-
الوضع العام لإقليم الغرب
ب-
السمات القيادية للأمير عبد القادر
ت-
التحاق الأمير عبد القادر بجيش والده محي الدين و بيعته .
ث-
بداية و مراحل مقاومة الأمير عبد القادر للاستعمار الفرنسي ( مع الإشارة
إلى أشهر المواجهات و المعارك التي قادها ضد الاستعمار الفرنسي )
ج-
الأمير عبد القادر و معاهدة ديميشال و التافنة
ح-
الأمير و بناء الدولة الجزائرية المعاصرة
خ-
نهاية مقاومة الأمير عبد القادر
أ-
الوضع العام لإقليم الغرب : كان
يتسم الإقليم الغربي للجزائر بفراغ سياسي
و عدم الأمن ، نتيجة تخلي
الباي " حسن " الذي كان يحكم
ايالة الغرب عن السلطة يوم 7 جانفي 1831 ، و قد جاء هذا
الاستسلام للعدو بعد أن قام الجيش الفرنسي باحتلال ميناء المرسى الكبير يوم 4
جانفي 1831
و من جهة أخرى
بعث حضر سكان تلمسان بوفد إلى السلطان المغربي " عبد الرحمن بن هشام
" يطلبون منه الحماية و بعد تردد
قبلها ، فأرسل في شهر نوفمبر 1830 خليفته مولاي سليمان رفقة قوة من الجيش المغربي
ليتولى حكم تلمسان ، فاحتج الجنرال كلوزال على هذا التدخل في الجزائر و هدد
المملكة المغربية ، إلا أن سلطان المغرب لم يأخذ تهديداته بجدية و واصل عمله ، و
عندما توسع نفوذ المغرب في الغرب الجزائري
شعر الفرنسيون هذه المرة بالخطر الذي أصبح يهدد مصالحهم و نفوذهم في الجزائر ،
فبعثت الحكومة الفرنسية مذكرة احتجاج و أرسلت الى سواحل مدينة طنجة المغربية يوم
18 نوفمبر 1831 سفينتين حربيتين ، و أمام هذا الضغط الدبلوماسي و العسكري استسلم
في الأخير السلطان المغربي لأوامر الملك الفرنسي " لوي فليب " و سحب قواته من التراب الجزائري .
و لملء الفراغ السياسي في الغرب الجزائري
بادر الجنرال كلوزال إلى تعيين باي تونس حاكما على وهران بموجب الاتفاقية التي تمت
بين الطرفين يوم 4 فيفري 1831 ، و هذا مقابل دفع ضريبة سنوية لحكومة فرنسا . إلا
أن قوات باي تونس انسحبت بسبب عدم وجود أية سلطة تدفع رواتبهم و كذلك بسبب استياء
باي تونس من المبلغ المالي الكبير الذي يدفعه الى فرنسا. و هناك بعض الروايات تقول
أن قوات باي تونس انسحبت لأنه وجد أمامه خزينة فارغة من الأموال.
و أمام هذا الوضع القائم في اقليم الغرب الجزائري إلتجأ سكانه إلى شيوخ
الزوايا و لم يجدوا أفضل من الشيخ محي الدين
كقائد يوحدهم و يقود المقاومة ، فطلبوا منه الامارة فرفضها و قبل الجهاد في
سبيل الله .
ب-
بداية مقاومة الأمير عبد القادر كقائد في صفوف جيش والده : شارك الأمير عبد القادر في الهجومات التي شنها والده محي
الدين على العدو الفرنسي المتواجد بمدينة وهران ، و قد تمكن الشيخ محي الدين من
مضايقة العدو ، و في هذه الفترة برزت شخصية ابنه " عبد القادر " ، حيث
أظهر في المعارك التي شارك فيها مع والده شجاعته و بطولته أبهرت المجاهدين .
قاد محي الدين
المجاهدين في مواجهة الفرنسيين و أعوانهم بوهران منذ 17 أفريل 1832 ، و كان أول
هجوم قام به على سرية استطلاع فرنسية من مائة ضابط و جندي في منطقة و هران ملحقا
بها بعض الخسائر . و في مطلع ماي من نفس
السنة خاض محي الدين برفقة ابنه عبد القادر و بقية المجاهدين عددا من المعارك
المجيدة ضد العدو هاجموا فيها على بعض المعسكرات و الحصون الفرنسية بمدينة وهران ،
و ألحقوا به هزائم نكراء أجبرتهم على الانسحاب ، و كان أهم هذه المعارك :
·
معركة خنق النطاح الأولى يوم 4 ماي 1832 :
·
معركة خنق النطاح الثانية في 4 جوان 1832 :
أسند محي الدين في هذه المعركة الراية إلى ابنه عبد
القادر الذي كان بطل المعركة ، حيث قسم جيشه إلى خمس فرق : فرقتين للقتال ، و
فرقتين للدفاع ، و خامسة كمنت وراء العدو ، و فاجأته عند تقهقره إلى الوراء و
أبادته عن آخره و استولت عن كل السلاح و الذخيرة .
·
معركة برج رأس العين : في الجهة الغربية من وهران
ت-
بيعة الأمير عبد القادر : رغم
الانتصارات التي حققها الجزائريون في غرب البلاد ، لكنهم كانوا على يقين بأن
المعركة مازالت طويلة مع العدو من جهة ، و أن الاقليم محتاج إلى شخص ينظم إدارته
من جهة أخرى .
و لهذا عرضت قبائل و أعيان الغرب للمرة الثانية من الشيخ
محي الدين الامارة بتاريخ 22 نوفمبر 1832 ، قائلين له " إلى متى يا محي الدين
و نحن بلا قائد ؟ إلى متى و أنت واقف جامد متفرج على حيرتنا . أنت يا من يكفي إسمه
فقط يجمع كل القلوب لتدعيم و تماسك القضية المشتركة..." و قد أضاف أحد
الحاضرين قائلا لمحي الدين " عمت الفوضى في البلاد و العدو دخل المساجد ، و
أحرق الكتب ، و هدم الدور على أصحابها ، و لابد من سلطان له سلطة شرعية ، و قد
اخترناك لتحمل هذه المسؤولية."
لكن الشيخ
محي الدين اعتذر مرة أخرى لكبر سنه و قال " أشكر ثقتكم و لكن أعتذر عن قبول
هذا المنصب ، فأنا الآن أقوم بواجبي الديني و الوطني مجاهدا في سبيل الله كأي أحد
منكم." و في ذات الوقت لم يمانع في ترشيح ابنه قائلا " إن كان رأيكم و
ثقتكم بولدي عبد القادر كرأيكم بي فأنا متنازل له عن هذه البيعة ، فتشاوروا فيما
بينكم ، و إذا عقدتم العزم فموعدنا في سهل غريس تحت شجرة الدردارة صباح الاثنين 27
نوفمبر 1832 ."و هذا ما حدث بالفعل فقد تمت مبايعة الأمير عبد القادر في نفس
المكان و في نفس الموعد ، بايعوه بالإمارة و لقبوه ب " ناصر الدين " و
كانت هذه البيعة الأولى .
و بعد البيعة
الأولى ، و قعت بيعة ثانية ( البيعة العامة )
في قصر الإمارة بمعسكر في 4 فيفري 1833 .
ث-
بداية مقاومة الأمير عبد القادر كأميرا و قائدا للجهاد : بمجرد مبايعته نادى الأمير عبد القادر نداء الجهاد ،
فهرعوا إليه من كل حدب و صوب ، كان ناصر الدين يقوم بعمل مزدوج : توحيد صفوف الشعب
و محاربة الفرنسيين ، و من أجل ذلك لعب دور القائد العسكري فقاوم الفرنسيين ، و
لعب دور القاضي ففك المنازعات بين القبائل ، و لعب دور السياسي فألف بين الصفوف
المتفرقة .
بدأ الأمير عبد القادر هجوماته العسكرية ضد الجيش
الفرنسي ابتداء من يوم 4 فيفري 1833 ، و في حقيقة الأمر أن الأمير عبد القادر كان
يحارب على جبهتين في آن واحد : فمن جهة كان يحارب فرنسا ، و من جهة كان يحارب
القبائل المتمردة و يحاول أن يوحد الصفوف و يعيد الأمر إلى نصابه ، لأن الأمير كان
يدرك أن نجاح مقاومته من فشلها متوقف على الولاء و الطاعة و احترام قرارات دولته ،
خاصة و أن فرنسا كانت تراهن على فشل العرب في تنظيم أنفسهم و صفوفهم للنضال و
المقاومة .
و في هذا
الصدد يقول شارل هنري تشرشل " لقد آمن عبد القادر إيمانا عميقا بضرورة
الاتحاد المطلق بين مواطنيه ، لكي يحقق لهم استقلالهم المشترك ، لقد قرر أن يقارع
بسيفه الذين يشكون أو يحاولون أن يقاوموا سلطته ."
دوافع مقاومة الأمير عبد القادر :
1-
بداية الانتشار الاستعماري في الغرب و ذلك بعد احتلال فرنسا لعاصمته وهران في 4
جانفي 1831 .
2-
انتهاء السيادة العثمانية على الجزائر و سقوط الحكم التركي
، و اشتداد الحاجة إلى قيام سلطة جزائرية تقود الجهاد ضد الغزاة الفرنسيين .
3-
الغيرة الشديدة على الاسلام و الوطن من عدوان و تدنيس
المحتلين الظالمين ، و الحرص على صيانة أسس المجتمع الجزائري.
4-
انتشار الفوضى في المناطق الغربية ، و حرص الأمير على توحيد
القبائل و تنظيمها.
5-
تخلي المغرب و الدولة العثمانية عن نجدة الجزائر في مواجهة
العدوان .
ج-
مراحل مقاومته : مرت مقاومة
الأمير عبد القادر بثلاث مراجل نوجزها فيمايلي :
1-
مرحلة
الانطلاق و القوة (1832-1837): سميت هذه المرحلةبالانطلاق لأنها شهدت
بداية مقاومة الأمير عبد القادر للاحتلال
الفرنسي كأمير و قائد للجهاد ، و بداية بناء اللبنة الأولى للدولة الجزائرية
الحديثة هذا من جهة ، و وصفت من جهة أخرى هذه المرحلة بالقوة لأن ميزان القوة كان
لصالح قوات الأمير ، حيث تفوق في أغلب المواجهات العسكرية بينه و بين العدو ، و
انتهت هذه المرحلة بإبرام معاهدة التافنة التي اعترفت فيها فرنسا بدولته .
و
فيما يلي نستعرض أهم الأحداث التي شهدتها هذه الفترة :
·
اتخاذ معسكر عاصمة له ، اعترافا لدزر سكان منطقتها في
انطلاق الجهاد المنظم.
·
شرع الأمير في تشكيل حكومته في فيفري 1833 ، و تعيين القضاة
، و تنصيب الولاة في مختلف أنحاء الإمارة ، كما شكل مجلسا للشورى من 11 عالما .
علما أنه كان يدقق في اختيار خلفائه و أعوانه ، فكان يتحرى فيهم الكفاءة و القوة و
التقوى . و بمرور الوقت أنشأ الأمير كذلك الدواوين و الإدارات المركزية .
·
عمل الأمير على توحيد القبائل حول مبدأ الجهاد و تحت سلطته ، و انتزاع من الفرنسيين كثيرا من القبائل
التي كانت قد تحالفت معهم ، كما ألزمها بالتشبت بأرضها. و بالمقابل اعتبر
المتعاونين معهم مرتدين عن الإسلام .
·
مقاطعة المحتلين و محاصرة مراكزهم في وهران و مستغانم ، و حملهم على الخروج
من معاقلهم لقتال بالداخل .
·
الاستيلاء على ميناء أرزيو و استخدامه في توريد السلاح و الاتصال بالعالم
الخارجي .و ذلك قبل أن تستولي عليه فرنسا .
·
تنشيط مدن الداخل و السهول العليا كتلمسان و مليانة و المدية و قصر البخاري
...و جعلها محاور اقتصادية و اجتماعية و عسكرية للدولة.
·
توسع نفوذ
الأمير ليشمل كل الغرب الجزائري ماعدا وهران و مستغانم و أرزيو ، كما توغل في
إفليم التيطري و استولى على مليانة في أفريل 1835 ، و على المدية في الشهر التالي
، و توسع شرقا فأحذ مدينة بسكرة .
·
شرع في تكوين جيش نظامي وطني وفي
معاهدة ديمشال 1834 :
1-
الظروف التي وقعت فيها معاهدة ديمشال :
تمكن الأمير عبد القادر في المرحلة الأولى من مقاومته من
مواجهة الجيش الفرنسي و إحباره على التمسك و الاكتفاء بالبقاء في مدن : مستعانم ،
أرزيو و وهران ، و قد عمد الأمير إلى فرض حصار اقتصادي على هذه المدن الثلاثة . و
في هذا الصدد يذكر بعض المؤرخين أن نظام الحصار الذي ضربه عبد القادر كان تأشير
مهلك على القوات الفرنسية " حتى أصبحوا كالطيور الكاسرة يبحثون و يقعون على
طعامهم في المناطق الداخلية."
و في أواخر
شهر أكتوبر 1833 قام رجل من قبيلة " البرجية " باختراق الحصار ، و قصد
أرزيو لتموين قوات الاحتلال ، و عندما أتم صفقة البيع مع العدو طلب من الفرنسيين
توفير حماية له للعودة إلى قبيلته ، خشية من جنود الأمير ، فكان له ذلك حيث أرسلوا معه ضابط و أربعة جنود
، و في طريقهم اتقض عليهم 100 فارس جزائري ، فقتلوا جنديا و أسروا الباقين في
معسكر .
على إثر هذه الحادثة
كتب الجنرال ديمشال إلى الأمير يطلب منه
إطلاق سراح الجنود الأسرى ، و يقول ديمشال في رسالته " هؤلاء الجنود الأسرى
سقطوا في كمين بينما كانوا يحمون عربيا ." فكان رد الأمير " ذلك ليس حجة
في نظري ، فالحامون و المحمي كانوا سواء أعدائي ، و إن كل العرب الذين يشيدون بك
هم ليسوا مؤمنين حقيقيين و جهلاء بواجبهم ."
و نظرا لشدة
وطأة الحصار الاقتصادي المفروض على الفرنسيين في كل من وهران و مستغانم و أرزيو
راسل الجنرال ديمشال الأمير لكن هذه المرة ليعرض عليه صراحة إجراء مقابلة معه و
عقد معاهدة سلم تحقن دماء " شعبين فرضت عليهما العناية الإلاهية أن يتعايشا
في ظل حكم واحد."
2-
توقيع المعاهدة في 26 فيفري 1834:
اضطر الجنرال الفرنسي ديمشيل إلى ابرام معاهدة هدنة مع
الأمير عبد القادر بتاريخ 26 فيفري 1834، الذي اعتبرها هذا الأخير فرصة لتوطيد
مركزه و توسيع نفوذه خارج اقليمه ، و كذا حيازة اعتراف العدو به و بدولته . و أهم ما نصت هذه المعاهدة من بنود نوجزها
فيمايلي :
·
وقف القتال بين الطرفين .
·
اعتراف ديميشيل بإمارة الأمير على كامل البلاد
في المقابل اقراره لفرنسا على مدن : الجزائر ، وهران ، أرزيو و مستغانم.
·
تعيين وكلاء من الأمير عبد القادر بوهران و مستغانم و أرزيو ، كي لا تقع
خصومة بين الفرنسيين و العرب ، و بالمثل يقام وكيلا عن فرنسا ضابط فرنسي في معسكر
.
·
يلزم رد الأسرى من الفريقين.
·
اعطاء الحرية كاملة للتجارة .
·
تلتزم العرب بإرجاع كل من يفر إليهم من العسكر الفرنسي و يلتزم الفرنسيون
بتسبيم كل من يفر إليهم من أهل الجرائم الهاربين من القصاص إلى وكلاء الأمير في
المدن الثلاث.
·
كل أوروبي سيعطى له إذا رغب في السفر داخل البلاد جواز سفر موقعا عليه من
ممثلي الأمير و مصادقا عليه من القائد العام ، و بذلك يحصل على الحماية في جميع
الأقاليم.
اعتبر الجنرال ديمشال توقيع هذه المعاهدة انتصارا
دبلوماسيا ، حيث قال " إنني أعلن لكم استسلام إقليم وهران الذي يعتبر
أكبر جزء في ولاية الجزائر و أكثرها محاربة ، الفضل في هذا الحادث الكبير يعود إلى
الميزات التي امتازت بها القوات التي أقودها." أما الأمير عبد القادر فقد كان
راضيا باعتبار أنه نجح في ارغام عدوه على طلب السلام ، و وضع شروطه الخاصة ، و لم
يدفع أي جزية ، و لم توضع أي حدود على منطقته .
و فضلا عن
ذلك كانت عند الأمير وثيقة سرية وقع عليها ديميشال تقضي باعطاء الامير الحرية
الكاملة لشراء الأسلحة من غير الرجوع إلى فرنسا و كذا احتكاره للتجارة ، بمعنى أن
ممثلي الأمير هم الوحيدون المسموح لهم بشراء و بيع القمح و الشعير و باقي الانتاج
الفلاحي ، و هم كذلك الذين يحددون الأسعار في الأسواق . و بناء على ذلك أصدر
الأمير عبد القادر أوامره بمنع العرب من بيع منتوجهم الفلاحي مهما كان نوعه إلى
المسيحيين سواء كانوا من أهل البلاد أو أجانب.
و على صعيد
آخر استغل الأمير هذه الهدنة ليلتف إلى أحوال البلاد ، فعمل جاهدا على تشييد
الحصون ، و إقامة القلاع ، كما قام على
صنع السلاح و انتاج الذخيرة الحربية ، و في ذات الوقت عمل على تنظيم صفوف الشعب و توحيد
الجماهير حوله دفاعا عن الوطن و حماية للدين.
3-
نقض المعاهدة :
و كعادتها قامت فرنسا بنقض معاهدة ديميشال ، فكما قال
شكيب أرسىلان " كانت معاهدات الدول الاستعمارية مع أهالي الأقطار ...هي في
الغالب محاط استراحة بين الحملة و الحملة ، و منازل استجمام بين مراحل الحرب لاغير
، بحيث لا تعدم عذرا لدى توفر القوة في نقض المعاهدات التي لم تبرمها منذ البداية
إلا على نية النقض ."
حيث بمجرد عزل
الحكومة الفرنسية الجنرال ديميشيل عن قيادة وهران في 15 جانفي 1835 ، و استبداله
بالجنرال تريزيل ( Trézel ) حتى قام هذا الأخير بنقض
المعاهدة ، و ذلك بعد اقدامه على توفير الحماية لقبائل الزمالة و الدوائر المتمردة
على الأمير . و مقابل هذه الحماية اعترفت القبيلتان بسيادة فرنسا و التزامهما بدفع
ضريبة سنوية .
يذكر أن هذه
القبائل استأنفت المبادلات الودية مع الفرنسيين ، فهدد الأمير أن يعيدها بالقوة
إلى تلمسان ، و لكن تلك القبائل فضلت الحماية الفرنسية في الحال على التخلي عن
منتجاتها الزراعية و تجارتها ، و قد لبى الجنرال تريزل طلبهم . حيث كان يري أن فرنسا تضيع وقتا حين تترك
الفرصة للأمير ليشتد سلطانه و يقوي نفوذه ، و عليه فلابد من محاربة الأمير و
القضاء على قواته.
و اعتبر
الأمير عبد القادر هذا العمل منافيا و مخالفا للاتفاق المبرم بين دولته و دولة
فرنسا ، حيث ينص الاتفاق " أن لا تقبلوا من يلتجىء إليكم من العرب، كما أننا
لا نقبل من يفر إلينا من الفرنسيين." و أجابت فرنسا أن المعاهدة لا تشمل
أشخاص يريدون تغيير محل إقامتهم و إنما تشمل على كلمة " هارب " ، و أجاب
الأمير " إن الحكومة الفرنسية ملزمة بأن ترد إلي كل مذنب إلتجأ إليها ، إذا
كان رجلا واحدا ، فكيف بالعشيرة و القبيلة."
و بمجرد
استئناف الطرفين الحرب ، خاض الأمير عبد القادر عدة معارك مع الجيش الفرنسي خسر في
البعض منها و انتصر في البعض الآخر كمعركة
التافنة المشهورة سنة 1836.
4-
معاهدة التافنة ( 30 ماي 1837 ) :
اضطرت
فرنسا أن تعقد صلحا آخر مع الأمير عبد القادر ، و كلفت هذه المرة الجنرال بيجو يوم
23 ماي 1836 بالتفاوض معه ، و ذلك لتحقيق الأغراض
الآتية:
·
التفرغ للقضاء على مقاومة أحمد باي في
الشرق الجزائري.
·
إعداد فرق
عسكرية خاصة بحرب الجبال.
·
فك الحصار عن
المراكز الفرنسية.
·
انتظار وصول
الإمدادات العسكرية من فرنسا.
أما الأمير عبد القادر فقد قبل الهدنة قصد تحفيف معاناة
الشعب الجزائري و التقاط الأنفاس و توسيع نفوذه في البلاد و حيازة اعتراف فرنسا به
، مما قد يكسبه الاعتراف الدولي مستقبلا و يؤكد اعتداء فرنسا على بلاده و شعبه . و
قد أدت الاتصالات بين الطرفين إلى ابرام معاهدة التافنة في 30 ماي 1837 و التي نصت
على وجه الخصوص بمايلي:
-
إن الأمير يعترف بسلطة دولة فرنسا على مدينة الجزائر و سهل متيجة ، و على
مدن وهران و مستغانم و أرزيو.
-
على دولة فرنسا أن تعترف بإمارة الأمير عبد القادر على اقليم وهران و إقليم
التيطري ، و القسم الذي لم يدخل في حكم فرنسا من إقليم مدينة الجزائر من الناحية
الشرقية. و لا يحق للأمير أن يمد يده لغير ما ذكر من أرض الجزائر.
-
يمكن للأمير أن يشتري من فرنسا البارود و الكبريت و سائر ما يحتاجه من
الأسلحة.
-
على فرنسا أن تتخلى للأمير على مدينة تلمسان و قلعة المشور و رشغون مع
المدافع القديمة التي كانت فيها قديما .و يتعهد الأمير بنقل الذخائر الحربية و
الأمتعة العسكرية التي للعساكر الفرنسية في تلمسان إلى وهران.
-
تطبيق مبدأ التجارة الحرة بين الطرفين.
و بناء على هذه الشروط تكون هذه المعاهدة اعترافا صريحا
من حكومة فرنسا بإمارة الأمير التي أصبحت تشمل ثلاثة أرباع مقاطعة الجزائر زيادة
عن ولاية وهران كلها ، باستثناء المدن السالفة الذكر.
2-
مرحلة تنظيم الدولة ( 1837-1839) ( الهدوء المؤقت ) :
استغل الأمير عبد القادر معاهدة التافنة و عاد لإصلاح
حال بلاده و ترميم ما أحدثته المعارك بالحصون والقلاع و تنظيم شؤون البلاد ، و كذا
لتعزيز قواته العسكرية و تنظيم دولته من خلال الإصلاحات الإدارية و التنظيمات العسكرية الآتية:
1- تشكيل مجلس
وزاري مصغر يضم رئيس الوزراء ، نائب الرئيس ، وزير الخارجية، وزير الخزينة الخاصة
و وزير الأوقاف ...و اتخذت هذه الوزارة من
مدينة معسكر عاصمة لها.
3- التقسيم
الإداري للبلاد إلى ثماني مقاطعات ( ولايات) و كل ولاية يديرها خليفة ، و قسم الولاية إلى
عدة دوائر و وضع على رأس كل دائرة قائدا يدعى برتبة آغا و تضم الدائرة عددا من
القبائل يحكمها قائد ،و يتبع القائد مسؤول إداري يحمل لقب شيخ.
4- تنظيم
الميزانية وفق مبدأ الزكاة و فرض ضرائب إضافية لتغطية نفقات الجهاد وتدعيم مدارس التعليم…الخ.
5-
تدعيم القوة العسكرية بإقامة ورشات للأسلحة و الذخيرة وبناء الحصون على مشارف الصحراء
حتى يزيد من فاعلية جيشه .
6- تصميم علم
وطني وشعار رسمي للدولة.
7- ربط علاقات
دبلوماسية مع بعض الدول
3-
مرحلة الضعف
(1839-1847)حرب الابادة:
بادر
المارشال فالي إلى خرق معاهدة التافنة بعبور قواته الأراضي التابعة للأمير ،
فتوالت النكسات خاصة بعد أن انتهج الفرنسيون أسلوب الأرض المحروقة ، كما هي مفهومة
من عبارة الحاكم العام الماريشال بيجو: " لن تحرثوا الأرض، و إذا حرثتموها
فلن تزرعوها ،وإذا زرعتموها فلن تحصدوها ."
فلجأ
الفرنسيون إلى الوحشية في هجومهم على المدنيين العزل فقتلوا النساء و الأطفال و الشيوخ
، و حرقوا القرى والمدن التي تساند الأمير.
و في هذه المرحلة بدأت الكفة ترجح لصالح العدو
بعد استيلائه على عاصمة الأمير تاقدامت 1841، ثم سقوط الزمالة -عاصمة الأمير المتنقلة- سنة 1843 و على إثر ذلك
اتجه الأمير إلى المغرب في أكتوبر عام 1843 الذي ناصره في أول الأمر ثم اضطر إلى
التخلي عنه على إثر قصف الأسطول الفرنسي لمدينة( طنجة والصويرة )، و تحت وطأة
الهجوم الفرنسي يضطر السلطان المغربي إلى طرد الأمير عبد القادر، بل و يتعهد
للفرنسيين بالقبض عليه. الأمر الذي دفعه إلى العودة إلى الجزائر في سبتمبر 1845
محاولا تنظيم المقاومة من جديد .
4-
محاصرة الامير و استسلامه عام 1847م
اضطر الأمير عبد القادر إلى الإنسحاب إلى المغرب الأقصى أمام ضغط الجيش
الفرنسي القوي طالبا من سلطان المغرب عبد الرحمن بن هاشم مساعدته محذرا اياه من
سقوط الجزائر ، لأن ذلك سيؤدي إلى سقوط
المغرب و بلدان إسلامية كثيرة تحت السيطرة الإستعمارية ، لكنه لم يستمع إلى نصائح
الأمير متذرعا بمواجهة المتمردين ضد السلطان في المغرب، و كأن مواجهة الشعب الثائر
ضده أفضل من مواجهة العدو الكافر الذي يهدد أرض الإسلام .
و أكثر من ذلك تعاون هذا السلطان مع الجيش
الفرنسي لمحاصرة الأمير عبد القادر الذي اضطر للإستسلام في عام 1847 بعد محاصرته
من طرف الجيش الفرنسي شرقا و جيش السلطان المغربي غربا و خيانة بعض القبائل له. و
لم يستسلم الأمير إلا بعد أن اشترط على الجيش الفرنسي إعطاء عهد الأمان لجميع
رفاقه وجنوده و السماح لهم بالإلتحاق بقبائلهم، أما هو فطلب السماح له بالهجرة إلى
الإسكندرية بمصر أو عكا بفلسطين، و إذا لم تقبل فرنسا بهذين الشرطين فإنه الجهاد
حتى الموت. و كان هدف الأمير من ذلك هو إبقاء شعلة المقاومة ضد الإستعمار ملتهبة
على يد رفاقه بعدما يضمن لهم الحياة، و هذا ما حدث بالفعل فيما بعد مما يدل على
بعد نظر الأمير عبد القادر.
المراجع
المعتمدة في المحاضرة السابعة :
1-
عمار بوحوش ، التاريخ
السياسي للجزائر من البداية و لغاية 1962 ، ط 1 ، بيروت ، دار العرب الاسلامي
، 1997
2-
عمار عمورة ، موجز
في تاريخ الجزائر ، ط 1 ، الجزائر ، دار ريحانة ، 2002
3-
صالح فركوس ، المختصر في تاريخ الجزائر ( من عهد الفينقيين إلى خروج
الفرنسيين 814 ق.م – 1962 م ) ، (ب.ط) ، دار العلوم للنشر و التوزيع ، (
ب.س.ط)
4-
بشير بلاح ، تاريخ الجزائر المعاصر ( 1830-1989 ) ، ج 1 ، الجزائر ،
دار المعرفة ، ( ب.س .ط )
5-
صالح فركوس ، محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث و المعاصر ( 1830-1925)
، ( ب . ط ) ، الجزائر ، مديرية النشر لجامعة 08 ماي 1945 قالمة ، 2010
6-
يحي بوعزيز ، الأمير عبد القادر رائد الكفاح الجزائري ، طبعة منقحة
، تونس الدار العربية للكتاب ، 1983
7-
شارل هندري تشرشل ، ترجمة و تقديم و تعليق أبو القاسم سعد الله ، حياة
الأمير عبد القادر ، الدار التونسية للنشر ، 1974 .